Saturday 25 March 2017

بين عقارب موريس.. ومأساة الفئران.. والتيه في الأدغال (3)


  • تنبيه: هذه المقالة جزء ثالث من سلسلة مقالات ثلاث تتكرر فيها المقدمة ذاتها كل مرة، إن كنت عزيزي القارئ قد قرأت الجزء الأول منها، فأنصحك بتخطّيها.

المقدمة 

“أبو الفنون” لم تطلق هذه العبارة على المسرح عبثا، إذ طالما كانت ولا زالت خشبته مرآة لوجع الشعوب ومنبرا لثاراتهم وملجأ لسخطهم وأحزانهم، وكوني هائمة في هذا الفن الجميل لم أترك مسرحا في لندن إلا و وثبت بين كراسيه، أسيرة لدهشته و ممسوسة بموسيقاه ومهووسة بأدق عقده وصراعاته، وكوني قد قضيت إجازة الصيف في الكويت، حرصت على حضور المسرحيات التي تُقدم في العيد، حيث حثّني أقربائي أن المسرح في الكويت لا يقل عمّا يقدم في لندن، وحتى أقيّم شخصيا، ارتأيت أن أحضر ثلاث مسرحيات قُدّمت هذا العيد؛ الفئران، ساعة موريس، و زين الأدغال، وقد كان اختياري لهذه المسرحيات بالذات لأسباب، أهمهما؛ أن الأولى و الثانية هي ناتج خيال المؤلفين الخصب و أفكارهم الأصيلة، لذا في زمن يشح فيه الخيال كان لابد أن أنتصر للإبداع الفردي، بينما حضرت الثالثة لكونها مكتوبة بالفصحى و أنا أؤثر اللغة، وإن كانت فكرة العمل مقتبسة. في هذا المقال سأطرح رأيي النقدي القائم على النص المسرحي المكتوب، فأنا باحثة دكتوراه في الأدب، ورغم كون المسرح عملا أدبيا في المقام الأول إلا أن هذا لا يبيح لي نقد أمور أخرى ترتبط فيه، لذا فإن تركيز المقال سيكون على القصة و مضمونها لا على السينوغرافيا أو الديكور أو الإخراج، فهذا أمر لا تخصص لي فيه. سأذكر إيجابيات وسلبيات كل عرض حسبما رأيت، وقبل أن أبدأ بالسرد أريد أن أُلفت عناية القارئ أن هذا المقال سيُنشر على أجزاء ثلاثة، ولم يُكتب بدعوة من أصحاب المسرحيات الثلاث، بل قمت شخصيا بشراء تذاكر كل منها كي لا يُؤخذ ما سيقال محاباة أو هجوما.. 

زين.. الأدغال

إن الكتابة بالفصحى لهو أمر شجاع في هذا الوقت المهووس بحمى التغريب شكلا وهوية ولغة، الأمر الذي يجعلني دائما أحترم الكاتبة هبة مشاري حماده رغم تحفظاتي العديدة على أعمالها. زين الأدغال لم يكن العمل الوحيد الذي حضرته للكاتبة وفريقها، بل سبق لي أن حضرت عملها زين والوحش سابقا، والذي ما أزال معجبة به رغم امتعاضي من كون القصة ليست من خيال الكاتبة الأصيل إلا أنها أبدعت بإعادة قراءتها وطرحها. لكن .. تركيزنا هنا على عملها المسرحي الأخير “زين الأدغال” والذي لا أراه “زينا” أبدا وسأوضح وجهة نظري بالتفصيل لاحقا بعد استعراض الإيجابيات، إنصافا واتباعا للموضوعية.

قصة زين الأدغال هي مزيج بين قصتي “طرزان” و “ماوغلي فتى الأدغال”. حلا الترك تمثل الطفل الذي وجد في الغابة وحيدا، ليتلقفه الحيوانات أهلا وأصحابا ورعاة، يقومون على نشأتها وتربيتها، إلى أن تعيَ حلا أو “زين” كما تمثل في المسرحية، الاختلافات بينها وبين من قاموا على تربيتها ورغبتها بالانضمام إلى بني جنسها، ثم يتبين لها أن البشر يضمرون الشر للحيوانات فتقوم بتخليصهم من الفخ، لتنتهي الحكاية بعدم الرغبة للعودة إلى الغابة ولا إلى البشر، ورغبتها بشق طريقها وحدها، مما أصابني حقا بالحيرة! والتساؤل عن جدوى النهاية التي تبثها هبة في نصها. تناقش المسرحية قضايا جميلة مثل: أزمة الهوية، التفرد والتقليد، والانتماء. قضايا أراها عميقة وضرورية للطرح، لكنني للأسف لا أرى أن الكاتبة استطاعت إيصالها بشكل مفهوم للطفل أولا ثم للراشدين.

الإيجابيات

  • الديكور والإضاءة والأزياء والإخراج المسرحي، عوامل كانت جميلة جدا استطاعت أن تجعلنا نعيش في عمق الأدغال، لنعيش التجربة كاملة وننتقل من الواقع إلى الخيال.

  • أداء الممثلين وحركتهم ورقصاتهم تنبئ عن موهبة فذة وطاقة جذابة تجذب الأطفال وتخلب ألبابهم، مما أثار بهجة الصغار وزاد من متعتهم.

  • جمهور هذا العرض بالتحديد كانوا على قدر كبير من الاحترام ومراعاة النظام، الأمر الذي جعل التجربة المسرحية ممتعة.

  • بطل المسرحية بحق كان لحنها. بشار الشطي الملحن بإبداعه وموهبته استطاع أن ينقذ النصّ، وجعلنا نعيش بهجة الغابة من خلال الموسيقى، أمر أعتبره يحسب لبشار، وضروري لنصوص هبة دائما.

  • عملية الحجز كانت سهلة سلسة عبر الإنترنت. تضمن سرعة الحجز وتسهل عقبات الطريق للناس. 

  • المسرح كان مجهزا بكافة احتياجات الجمهور، من مكان لأداء الصلاة وغيرها من التسهيلات التي وفرت الراحة للزائرين.


السلبيات

  • تبعا لتخصصي في الأدب و النقد فإن أول سلبية تتبادر إلى ذهني هو اعتراضي جملة وتفصيلا على تسمية زين الأدغال بالمسرحية، ويمكنني القول أن الاسم الصحيح لها هو مسمى عرض. ذلك لأنها تفتقد أهم عناصر المسرحية وهو الصراع ودور الشخصيات في صناعة الحدث. العمل كله يتمحور حول شخصية زين. رغم زحمة الشخصيات الموجودة والتي يؤديها فنانون موهوبون إلا أننا لو أزلنا شخصة زين من العمل سينهار أمامنا تماما، لأننا سنعي أن الشخصيات الأخرى لا دور لها أبدا.

  • العرض فعليا بالنسبة لي لا يبدأ إلا في اللوحة الخامسة، حين يكتشف الحيوانات وجود زين في الغابة، ويبدأ النقاش في البت بأمرها. عدا ذلك فإن اللوحات الأربع السابقة ليست عبارة إلا عن رقص واستعراض لا يمت أبدا للقصة والأحداث بصلة. الأمر الذي يؤدي بنا إلى السلبية الآتية.

  • انفصال الحوارات عن حقيقة مجرى الأحداث. تتميز هبة في كتابتها بالروح التي تعكس فكرها وعمقها وهذا أمر لا جدال فيه.،لكن في كتابة النص المسرحي علينا أن نفرق بين كتابة الخواطر وكتابة المشهد. يبدأ العمل بشخصية الطير الذي يقول:
    “شكرا يا رب..
    شكرا من قلب..
    على الكسر فقد عرفت بأن
    ما قد قتلني قوّاني”
    إلى بقية الأغنية.. وهنا أسأل.. ما علاقة هذه الكلمات باللوحة الأولى، فاللوحة فقط تصور لنا الطير ينشد هذه الكلمات دون وجود أي ترجمة بصرية لها، بمعنى أن المشهد ليس به ما يعطي هذا المعنى من خلال التمثيل، وقد نتساءل، هل نحن بحاجة إلى سبب كي نشكر الله؟ بالطبع لا! لكن أكرر، نحن لسنا أمام ابتهالات، أو خواطر، نحن أمام عمل مسرحي والذي من أبجدياته أن يدور حواره حول الحدث. وإن كان يوحي بحكمة، فالحكمة تأتي من خلال الحوار لا المباشرة.

  • انفصال الحوار عن المشاهد أمر سلبي يستمر طوال المسرحية. مما يؤدي بنا إلى سلبية أخرى. في لوحة ما تشرح الكاتبة على لسان الحيوانات ما يحدث في الأدغال فتقول:
    “في الأدغال سترى الأشجار
    و ترى الأحلام
    من أضخم فيل إلى نملة”
    والسؤال هنا: لماذا يُروى لنا ما في الأدغال وما يجري بها وهو بَيِّن من خلال الديكور والأزياء؟ بدل أن نراه صراعا يتجسد من خلال الأحداث وتناميها وتصاعدها. القاعدة في المسرح تقول: “
    show don’t tell”، “أظهر لا تقل”. أي اجعلنا نرى ما في الأدغال من صراع القوي مع الضعيف، وتداخل المتناقضات ودورها في صنع مصطلح الغابة. بدل أن تكون اللوحة عبارة عن سرد لا يتعدى الإخبار والتقرير.

  • عدم فاعلية الشخصيات. هناك لوحات تالية مخصصة لشخصيات الحيوانات: الفيل و القرد والدب. لوحات جميلة استعراضيا لكنها فقيرة معنويا. كل لوحة تشرح صفات ومميزات وعيوب كل حيوان حين تحاول زين تقليد كل واحد منها. المشكلة هنا أن هذا عرض مسرحي لا تعليمي. ابن أختي الذي كان يبلغ السنتين و النصف آنذاك كان يعرف تسمية الحيوانات وصفاتها. فما الذي سيضيفه إليه التكرار؟ يعلم أن الفيل له خرطوم طويل وأن الدب يحب العسل. لكن ما علاقة هذه المعلومات في تصاعد الأحداث؟ ما الذي قام به الفيل ليزيد في عقدة النص؟ ما دور الدب في تأجيج صراع الهوية لدى زين؟ أربع لوحات كاملة لم يكن هدفها إلا أن تخبرنا أن زينا ليست فيلا ولا دبا ولا قردا، الأمر الذي يبدو جليا من نظرة واحدة مجردة إلى زين وأصحابها!

  • عدم مناسبة محتوى الكلام للطفل. لو كان العمل كتابا أو مجموعة خواطر لكنت من أوائل المعجبين بما خطته هبة في عملها. لكن نظرا لكون العمل مسرحيا موجها للأطفال، فهنا أقف اعتراضا. في إحدى اللوحات تقول الكاتبة: “إن الخوف يخاف ممن يضحك له مرة” “إن الضيق يضيق ممن يتسع صدره” “إن الموت يموت..” وغيرها من العبارات الفلسفية التي لن يستوعبها الطفل، ولا تمت للأحداث بصلة. إن أجمل ميزة في المسرح هي رمزيته واعتماده على لا مباشرة الطرح الأمر الذي يخلق مساحة رحبة لتبطين الرسائل، فلماذا إذن تلجأ حماده بخبرتها إلى الأسلوب الوعظي المباشر بلغة مرهقة لذهن الطفل؟ ألم يكن من الأجدر تحويل هذه المعاني وتصويرها من خلال الأحداث وعقدتها؟

  • لا منطقية الخيال. وقد تتساءل هنا كيف يحدث ذلك؟ ما علاقة الخيال بالمنطق؟ من إحدى النصائح التي وجهت لي خلال التحاقي بإحدى ورش كتابة المسرح في لندن كانت” علينا احترام عقلية الطفل وتقديم الخيال له بشكل ممنطق”. مثال على ذلك فيلم “”Shark tale الذي كان يطرح شخصية قرش يصاحب الأسماك الصغيرة، والتي تعدّ قوت قومه، وسبب ذلك أن القرش كان نباتيا، مما جعله عارا على صنفه. وهنا قدم الفيلم سببا خياليا لكنه منطقي لمصاحبة القرش لغيره. الأمر الذي يأتي بنا لسؤال الكاتبة: كيف للفهد أن يكون صاحب الغزالة والأرنب؟ يعيش معهما بتناغم وانسجام دون رغبة في أكلهما، رغم أن الفهد نفسه يرد في إحدى اللوحات:
    “ زين: كل يوم أفتح عينيّ على غزالة تفلت من نمر.
    النمر: لأنها قد تكون أو فلا”
    إذن الفهد، صاحب النمر، يقر بأن الغزالة فريسة له، كيف إذن يعيش معها بسلام مدركا هذه الحقيقة؟ ما المنطق الذي تمنحه الكاتبة للطفل ليستوعب هذه العلاقة؟ ولو عولنا على الخيال، لماذا تلجأ الكاتبة لكسره من خلال سرد هذه الحقيقة؟ أمر أظن على الكاتبة أن تفكر به مليا!

  • ركاكة اللغة. كما ذكرت مسبقا.. أشجع هبة دائما وأحترمها لإيثارها الفصحى. لكن النص يحتاج تدقيقا لغويا ونحويا. الأخطاء شوهت العمل. وتعقيد العبارات منع أي تواصل بيننا وبين النص. وعتبي على هبة هنا شديد لأنها صاحبة تخصص، كذلك لا يفوت على مثلها أخطاء بديهية في اللغة. وأنا هنا ممتعضة، لأن مسؤولية اللغة والحفاظ عليها لم تكن في أولويات الكاتبة. وإن كانت فعلا حريصة، فلماذا لم تجعل العمل يمر على مدقق لغوي ينقذها من هذا الإحراج والأمثلة على ذلك كثيرة ومريرة.. 
    “ لا تسكن عينيك أحدا فيعميك لما تغلق”.. لما أداة جزم وإن كان القصد هنا حين أو عندما، فلما تؤدي هذا الغرض مع الفعل       الماضي لا المضارع! كذلك فإن العبارة تفتقد السلاسة.
“أمسك بالرجلا” و الصواب .. أمسكْ بالرجلِ لأن الباء حرف جر.. وغيرها من الأخطاء التي لا عدّ لها!

  • النهاية. في ختام المسرحية ترفض زين الانضمام للبشر، وترفض كذلك الانتماء للحيوانات، بل وتعلل ذلك باستهزائها بالكائنات التي اعتنت بها وآوتها حين لم تجد من يأويها. لربما أرادت الكاتبة أن تبرز التمرد قيمة هنا حيث ترفض الانقياد وسط القطيع أو التقليد وهذه فكرة جميلة، ولكن السؤال.. هل التمرد مباح على من لم يقدموا لنا إلا المعروف والإحسان؟ وهل التفكير المتفرد يبيح انسلاخ الفرد من انتمائه؟ وهل النضج مدعاة للتقليل من شأن الآخرين؟ لماذا لم تكن زين وفية لأصدقائها الذين لم يقدموا لها إلا الحب؟ وهل التمرد حجة تنفي الوفاء؟ وهل يجب أن يُبنى التفرد على إلحاق الأذى بالآخرين أسئلة أوجهها لهبة حمادة إثر نهاية العمل. 

ختاما، تعلمت من الشاعر الكبير والصديق العزيز نجاح العرسان قيمة جميلة ذات حديث، عندما قال معلقا على قولي إنني صعلوكة:” انتبهي يا دلال الصعلكة عملية منظمة، لا فوضوية” رسالة أوجهها للكاتبة: إن كان التمرد قيمة فيجب أن يكون لها تداعياتها وأسبابها. والقيم لا تتضارب مع بعضها، فالتفرد لا يلغي الوفاء، والذكاء لا يبيح الاستهزاء. إنني أتمنى أن أرى عملا مسرحيا من خيال هبة حمادة الأصيل، دون اقتباس في المستقبل. لأنني أتمنى أن أرى عملا أصيلا بعيدا عن التبني، ومتصلا أكثر بثقافتنا. وإن كان ولابد، فالتراث العربي يزخر بآلاف القصص تنتظر منا الالتفات. أتمنى من الكاتبة أن تجتهد في ذلك عوضا من إعادة قراءة قصص تم طرحها مرارا وتكرارا.

التقييم النهائي للعمل: 5 من 10.

ملحوظة: طرحت الشركة المنتجة للعمل نسخة على موقع YouTube يمكنكم أن تطلعوا عليها لتقيموا المقالة ومدى اتفاقكم أو اعتراضكم مع ما طرحت. سيسرني جدا لو تكرموني بتعليقاتكم. 



دلال البارود


Thursday 12 January 2017

بين عقارب موريس.. ومأساة الفئران.. والتيه في الأدغال (2)


  • تنبيه: هذه المقالة جزء ثانٍ من سلسلة مقالات ثلاث تتكرر فيها المقدمة ذاتها كل مرة، إن كنت عزيزي القارئ قد قرأت الجزء الأول منها، فأنصحك بتخطّيها.

المقدمة 

“أبو الفنون” لم تطلق هذه العبارة على المسرح عبثا، إذ طالما كانت ولا زالت خشبته مرآة لوجع الشعوب ومنبرا لثاراتهم وملجأ لسخطهم وأحزانهم، وكوني هائمة في هذا الفن الجميل لم أترك مسرحا في لندن إلا و وثبت بين كراسيه، أسيرة لدهشته و ممسوسة بموسيقاه ومهووسة بأدق عقده وصراعاته، وكوني قد قضيت إجازة الصيف في الكويت، حرصت على حضور المسرحيات التي تُقدم في العيد، حيث حثّني أقربائي أن المسرح في الكويت لا يقل عمّا يقدم في لندن، وحتى أقيّم شخصيا، ارتأيت أن أحضر ثلاث مسرحيات قُدّمت هذا العيد؛ الفئران، ساعة موريس، و زين الأدغال، وقد كان اختياري لهذه المسرحيات بالذات لأسباب، أهمهما؛ أن الأولى و الثانية هي ناتج خيال المؤلفين الخصب و أفكارهم الأصيلة، لذا في زمن يشح فيه الخيال كان لابد أن أنتصر للإبداع الفردي، بينما حضرت الثالثة لكونها مكتوبة بالفصحى و أنا أؤثر اللغة، وإن كانت فكرة العمل مقتبسة. في هذا المقال سأطرح رأيي النقدي القائم على النص المسرحي المكتوب، فأنا باحثة دكتوراه في الأدب، ورغم كون المسرح عملا أدبيا في المقام الأول إلا أن هذا لا يبيح لي نقد أمور أخرى ترتبط فيه، لذا فإن تركيز المقال سيكون على القصة و مضمونها لا على السينوغرافيا أو الديكور أو الإخراج، فهذا أمر لا تخصص لي فيه. سأذكر إيجابيات وسلبيات كل عرض حسبما رأيت، وقبل أن أبدأ بالسرد أريد أن أُلفت عناية القارئ أن هذا المقال سيُنشر على أجزاء ثلاثة، ولم يُكتب بدعوة من أصحاب المسرحيات الثلاث، بل قمت شخصيا بشراء تذاكر كل منها كي لا يُؤخذ ما سيقال محاباة أو هجوما.. 

عقارب موريس

“ساعة موريس” عرض مسرحي جميل من خيال وتأليف الفنانة هند البلوشي، وإخراج يوسف البغلي. ترفع القبعة لهند التي غامرت وخاطرت بإنتاج فكرة من خيالها الأصيل دون اقتباس، لتبرهن فعلا أن المسرح الكويتي عامر بالمواهب والقدرة على التأليف دون الاستناد الممل الدائم على قصص عالمية وأفلام تم عرضها مرارا وتكرارا دون إضافة.

تتمحور قصة المسرحية حول جسم مادي يثير ألف سؤال معنوي، الساعة التي تمنح القوة لمن يملكها لكنها تسلب منه أغلى ما يحب، وما هذا الصراع إلا بداية لطوفان من أسئلة أخرى إنسانية لا عدّ لها، لماذا يلهث الإنسان وراء السلطة؟ وهل تستحق النفوذ كل هذا الجوع؟ وما الذي سيخسره الإنسان إن أطلق أشباحه نحوها؟ وماذا بعد الخسارة؟ أسئلة جميلة استطاعت مؤلفة العمل أن تصورها لنا بصريا حين تنتقل السلطة أو الساعة بين شخص وآخر، لتجعلنا نتجرع مرارة الخسران ولاجدوى الصراع الذي لا يولد إلا الظلم و الطغيان على أنفسنا أولا ثم على الآخرين. طريقة سرد القصة كانت مشوقة تخلب انتباه المشاهد منذ أول مشهد وتوقعنا في دوامة من الحيرة إلى المشهد الأخير.

أن يبدأ العرض المسرحي بجريمة فهذا أمر معتاد، لكن أن نكون على قلق وشك دون أدنى تخمين لهوية القاتل، فهذا أمر يُحسب لهند إيجابيا. كما أن النهاية المفتوحة التي صفعتنا آخر العرض المسرحي، دليل على تميز هند كاتبة ومؤلفة قبل أن تكون فنانة ومبدعة. أستطيع القول إن هذا العرض المسرحي بالنسبة لي كان شمس أمل للأعمال التي ستقام مسقبلا في الكويت. وأظن أن هندا قد رفعت من سقف التحدي على مستوى القصة والتأليف وصعّبت على نفسها أولا ومنافسيها ثانيا طرح أي فكرة جديدة قادمة، لكن أظن هندا على قدر هذا التحدي. وكأي عمل إنساني في هذه الدنيا، لابد أن يكون للعمل إيجابيات و سلبيات، ودائما ما أفضل أن أبدأ بالشيء الجميل.

الإيجابيات

  • حجز بطاقات الدخول كان متوفرا من خلال موقع إلكتروني، مما سهّل عملية الحجز. و وفّر على الناس مشقة الجو والطريق، خصوصا أن الجو كان قاسيا في رمضان الماضي.

  • تنظيم المقاعد والدخول كان احترافيا جدا، وتعامل المنظمين مع الجمهور كان بمنتهى الدقة والاحترام.

  • أداء الممثلين كان رائعا، مما يدعو للفخر والفرح بوجود أداء مسرحي يرقى للمعايير العالمية. الديكور والأزياء والفقرات الاستعراضية لا تقل عن أي عرض مسرحي عالمي حضرته في لندن.

  • كلام الأغاني كان جميلا غنائيا مهذبا يحتوي على مضمون رائع مفهوم لجميع أفراد الأسرة صغيرها وكبيرها، مما يتيح تواصلا أكثر بين النص والجمهور، الأمر الذي يشعل حرارة التفاعل والارتباط أكثر بالأحداث.

  • إبداع سرد الحكاية، والابتعاد عن التقليدية، والاعتماد على العرض والتصوير في اختصار مجريات القصة، مما يقلل من التعبير المكرر المعتاد ويبهر الجمهور تبعا للمقولة المسرحية الشهيرة “show dont tell” الأمر الذي نجحت به هند جدا في مسرحيتها.

  • مدة العرض المسرحي تعتبر عادلة بالنسبة لسعر تذكرة الدخول. فساعة موريس -بين العروض الثلاثة التي حضرتها- كانت الأنسب مدة في تهيئة القصة، ومنح مساحة لكل شخصية وحدث، للنمو التدريجي والوصول إلى أوج عقدة الصراع لتحل بنهاية صادمة غير متوقعة.

السلبيات

  • لم يكن مكان العرض مهيأً جدا للجمهور، فقد كان يفتقد أهم عنصر لراحتهم، وهو وجود مكان لأداء الصلاة، خصوصا و أن العرض كان يبدأ بعد أذان المغرب مباشرة.

  • قد لا يكون لي خبرة في الأمور الفنية، لكن من وجهة نظر المتلقي، كنت أرى أن هناك بعض الأسباب التي جعلتني أشعر بالملل في منتصف العرض. لم يكن هناك تنوعا واضحا في الألحان لكل مشهد، مما جعلني أشعر أن المشاهد متكررة رغم اختلاف وتنوع الأحداث. الأمر الذي يؤثر سلبا كذلك على شخصيات العمل، فالتنوع الموسيقي لا يرتبط فقط باللوحات بل بنضج وتصاعد وتلون الشخصيات كذلك.

  • رتابة الإضاءة واعتمادها فقط على اللونين الأخضر والأسود، ساهمت أيضا بالملل واختلال الإيقاع المسرحي.

  • بعض مشاهد المسرحية لم تكن واضحة صوتيا، وهذا الأمر يقع على اعتماد الممثلين على تسجيل صوتي للأغاني، دون الغناء الحي ووجود فرقة موسيقية دائمة تصحب العرض، الأمر الذي تفرّد به الفنان محمد الحملي فقط في عروضه. أغلب الفنانين المشاركين يمتلكون حناجر ذهبية كانت ستضفي ألقا للعرض، وفهما أكثر للكلمات. أمر أتمنى أن تأخذه هند بالاعتبار في عروضها القادمة.

  • بعض المشاهد جعلتني أشعر بأن العمل قد يكون صدى لأعمال أخرى، الإضاءة ذكرتني بمسرحية “Wicked” الشهيرة، كما أن الملابس التي يرتديها الثوار في العرض ذكرتني بعرض “Les misérable” العالمي، وأنا لا أتهم هندا هنا بالتقليد، لكن أتمنى أن تحذر من محاكاة عروض أخرى كي لا يتهمها الجمهور بالاستنساخ.

  • الجمهور، أعلم يقينا أن هذا الأمر ليس بيد المنظمين بتاتا، لكن للأسف، عدد ليس بالقليل لم يحترم العرض وكان يكثر الكلام والضحك والاستهزاء، مما يفسد على الآخرين متعة التجربة المسرحية.

  • كذلك بيع بعض المنتجات المضيئة للأطفال والتي تؤثر على الرؤية وهي بعيدة كل البعد عن كونها آمنة، لاحتمال تسببها في أذية وضرر الآخرين أمر أعده سلبيا جدا، ويُؤْثر الربح المادي، على الارتباط المسرحي.

ختاما.. شكرا هند البلوشي ويوسف البغلي و كل طاقم مسرحية ساعة موريس على العمل العالمي الجميل المبتكر، ونترقب الأفضل الذي أنتم أهل له.

التقييم النهائي: 


7 من 10


دلال البارود

Saturday 29 October 2016

بين عقارب موريس.. ومأساة الفئران.. والتيه في الأدغال (1)


“أبو الفنون” لم تطلق هذه العبارة على المسرح عبثا، إذ طالما كانت ولا زالت خشبته مرآة لوجع الشعوب ومنبرا لثاراتهم وملجأ لسخطهم وأحزانهم، وكوني هائمة في هذا الفن الجميل لم أترك مسرحا في لندن إلا و وثبت بين كراسيه، أسيرة لدهشته و ممسوسة بموسيقاه ومهووسة بأدق عقده وصراعاته، وكوني قد قضيت إجازة الصيف في الكويت، حرصت على حضور المسرحيات التي تُقدم في العيد، حيث حثّني أقربائي أن المسرح في الكويت لا يقل عمّا يقدم في لندن، وحتى أقيّم شخصيا، ارتأيت أن أحضر ثلاث مسرحيات قُدّمت هذا العيد؛ الفئران، ساعة موريس، و زين الأدغال، وقد كان اختياري لهذه المسرحيات بالذات لأسباب، أهمهما؛ أن الأولى و الثانية هي ناتج خيال المؤلفين الخصب و أفكارهم الأصيلة، لذا في زمن يشح فيه الخيال كان لابد أن أنتصر للإبداع الفردي، بينما حضرت الثالثة لكونها مكتوبة بالفصحى و أنا أؤثر اللغة، وإن كانت فكرة العمل مقتبسة. في هذا المقال سأطرح رأيي النقدي القائم على النص المسرحي المكتوب، فأنا باحثة دكتوراه في الأدب، ورغم كون المسرح عملا أدبيا في المقام الأول إلا أن هذا لا يبيح لي نقد أمور أخرى ترتبط فيه، لذا فإن تركيز المقال سيكون على القصة و مضمونها لا على السينوغرافيا أو الديكور أو الإخراج، فهذا أمر لا تخصص لي فيه. سأذكر إيجابيات وسلبيات كل عرض حسبما رأيت، وقبل أن أبدأ بالسرد أريد أن أُلفت عناية القارئ أن هذا المقال سيُنشر على أجزاء ثلاثة، ولم يُكتب بدعوة من أصحاب المسرحيات الثلاث، بل قمت شخصيا بشراء تذاكر كل منها كي لا يُؤخذ ما سيقال محاباة أو هجوما.. 

الفئران.. الشر ينتصر!

لا أستطيع أن أنكر أن هذا العمل يخلب الألباب و يصفعها دهشة، أحداثه تعلي الشهقة فالشهقة، ابتداء برمزية كائناته، وانتهاء بصدمة نهايته القاسية والموجعة أو بوصف أدق الحقيقة ألما. النص كما عرفت من خيال الشاب بدر الشعيبي وكتابة عثمان الشطي، خيالان امتزجا ليقدمّا لنا قصة يضج فيها الصراع بمختلف أصعدته فهو يطرح التساؤلات بين الطبقات وبين النفوذ، السلطة و التابعين البشر والفئران الذين يختلفون شكلا ويتشابهون كل التشابه مضمونا. عبقرية النص كانت في سرده من حيث التنقل بين الماضي والحاضر، وبين تكرار اللقطات التي في كل مرة يتكشف منها حقيقة غابت عن أعيننا، كل لوحة أو مشهد في المسرحية كان يرتكز على حدث مفاجئ تدور حوله الأغنية وتتشعب فيه ردود الأفعال. جمالية النص برزت كذلك في التقسيمة التي ارتآها كل من الشعيبي و الشطي لمجتمع الفئران فهناك القائد، الطبيب النفسي، حرس الأمن، الفأرة المجنونة ظاهرا والحكيمة باطنا، الثائر والعامة الذين لاحول لهم ولا قوة. وفي المقابل، الأختان اللتان قدمتا حديثا للمنزل الذي ورثتاه من والدهما، وهو المكان نفسه الذي يسكنه الفئران حيث الغازي هو الإنسان و المغار عليه الفئران، وهو نقيض ما يحدث في الواقع. شرارة هذا الحدث هي التي تشعل فتيل الأحداث تباعا وتسلسلا لتتركنا بعد كل مشهد مشدوهين من المفاجأة والصدمة. تُرفع القبة لمؤلفي هذا العمل لتوظيف كل خصائص الفأر كائنا في ترابط الأحداث.. ففي مشهد يسأل أحدهم ”ما عندكم كرامة” يجيب آخر “ومن أين لنا الكرامة ونحن نقتات على فضلة الآخرين”.

الرمزية الساطعة في العمل تجعل الذهن يبصر حقا دلائل اختيار الشخصيات والجرأة في تحطيمها وتفكيكها، صاحبا العمل أبهراني بالتجرؤ على كل ما هو مقدّس في العقلية العربية، أو الكويتية تحديدا، فالحرس لا يحرسون إلا مصالحهم، والقائد لا يكترث أبدا لرعيته، والطبيب أمام سؤال وجودي محض كيف يعالج بقية الفئران؟ وهو يرى أنه عاجز عن علاج نفسه. والأخت الكبرى… التي تشكل مصيبة في حد ذاتها، هناك أيضا صراحة مزعجة في المشاهد تعرّي الواقع باستفزاز من خلال غناء الفئران عن لا جدوى المبادئ والقيم، وعبثية الرأي دون سلطة، والموت الذي يلاحق الطيبين والضعفاء فقط. هذا العمل يعد فضيحة للواقع الذي نعيشه الآن الذي يعلي من سطوة القمع ويسحق المستضعف .. أو بلغة أهل هذا العمل.. الفئران الذين يمثلون الطبقة الكادحة المستضعفة في كل مكان. ما زاد العمل حلاوة الألحان المثيرة والديكور الذي رغم عدم تغيره جعلنا نحس فعلا أننا في بيت يعيش البشر في قمته والفئران في أنقاضه. استعراض الممثلين وطاقتهم وتقمصهم لشخصياتهم، كانت تثير الرعب وأشعرتني أنني فعلا أمام فئران لا ممثلين.

النص محكم الكتابة، والأغاني كانت منسابة لتحقيق هدف كل حدث فيه إلا أن هناك بعض المآخذ:

  • ما شد انتباهي أن غالب الحضور من الأطفال الصغار، أعني بذلك فئة مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، أي ما دون التاسعة، فعن نفسي كنت بصحبة أبناء أختي حصة ذات الستة أعوام، ومحمد الذي يبلغ السنتين وأكثر من النصف، ومعضلة هذا السن تكمن في الأسئلة المثارة من العمل فكيف أفسر لهم معنى الانتحار الذي أقدم عليه الطبيب، أو مسوّغ حفلة التعذيب التي أقامها الحرس، أو النهاية المفجعة التي فتكتنا بها الأخت الكبرى ختام المسرحية. أعي تماما أن هذا العمل غير موجه للأطفال بتاتا، لكن كان من الأجدى أن يحدد أصحاب العمل العمر الأدنى لدخول المسرحية والذي من وجهة نظري يجب أن لا يقل عن العاشرة.

  • رغم إعجابي الشديد بإيقاع العمل السريع والمدهش، إلا أنني تمنيت لو كانت المسرحية أطول زمنا، حتى تأخذ كل شخصية حيزها في البناء والهدم، عمل جميل كهذا كان سيصبح أمتع لو امتد عرضه أكثر، حيث يتم تناول تاريخ كل شخصية، والسبب الذي جعلها تصل لما وصلت إليه الآن، فمثلا ما حاجة قائد الفئران للطبيب النفسي؟ و هل الاستحواذ على ميراث الأب سبب كاف لقتل الأخت لأختها؟ هناك خيوط كان لابد أن تبرز ليعي المشاهد مسوغاتها ونتائجها. لهذا كنت أرى أننا أمام قصة مختصرة لقصة أكبر تم اجتزاؤها. 

  • في المشهد الذي تنزل فيه الأخت الكبرى لمسكن الفئران، تلفظت الشخصية بألفاظ غير محمودة مثل “عمى بعينكم”. عبارة كهذه كان من الأسهل استبدالها بأي عبارة أخرى تؤدي غرض الاشمئزاز. مأخذي هنا ليس البذاءة بل المسؤولية تجاه الجمهور والذي كما ذكرت كان أغلبه من الأطفال.

  • بعض الشخصيات حملت أسماء غير عربية، اسم “جان” “سايكو” على سبيل المثال لا الحصر، فما سبب انتقائها، ولماذا لم يتم اختيار أسماء عربية؟ علما بأن اللغة العربية بل حتى اللهجة المحلية رحبة بالألقاب ذات الدلالات العميقة المكثفة.

  • الالتزام بوقت العرض أمر محمود ونشجع عليه، لكن كان من الأجدى إعطاء المتأخرين فرصة لمتابعة الأحداث، خصوصا أن اللوحة الأولى كانت مهمة جدا في إعطاء نبذة عن حال الفئران وإشكالاتهم. أعني بالفرصة وجود شاشة خارجية يتابع فيها المتأخر ما يجري داخل المسرح لحين سماح المنظمين له بالدخول. وهذا ما يطبق في كل مسارح لندن.

  • عانيت صعوبة في فهم ما يغنى في كثير من المشاهد، و هذا ناتج عدم ضبط جودة الصوت من السماعات أولا، إزعاج الجمهور ثانيا، صراخ الأطفال ثالثا، وعدم كون الغناء حيا رابعا، الأمر الذي كان سيحسن كثيرا من جودة العرض، خصوصا أن الشخصيات كلها تمتلك صوتا جميلا وأداء معبرا سيصلنا أكثر لو استغنى طاقم العمل عن الأغاني المسجلة بالغناء الحي المباشر.

  • ما يجعل النقطة السابقة صعبة التنفيذ، هو عدم جاهزية المسرح أساسا. لأنه بالنهاية مسرح هيئة حكومية أنشئ ليخدم أغراض التجمعات و التكريمات. لذا يفتقر المبنى لمكان مخصص لفرقة موسيقية، ومدرجات تتيح الرؤية العادلة لجميع الحاضرين.

تبقى المعضلة الحقيقية والتي تخرج عن نطاق سيطرة المنظمين هي معضلة الجمهور، يؤسفني حقا- في بلد مثل الكويت، يفترض أن يكون الجمهور متحضرا، لكن.. تراه نهاية العرض يلقي بقايا طعامه على الكراسي والأرض، ناهيك عن الأحاديث الجانبية والصراخ والإزعاج الذي -ورغما عن كل الاحترازات- يفسد المتعة ويقلل البهجة. ختاما شكرا بدر الشعيبي وعثمان الشطي، تجربة رائعة، ومسرحية ولاّدة للأسئلة تسكن فينا رغم مغادرتنا مكان عرضها. 

تقييمي النهائي للعمل: 7 من 10.




دلال البارود